جميع المواضيع

Sunday, November 3, 2013

وهم الدولتين 

تراشقت أعقاب المشاريع التفاوضية الفاشلة على مر العقود الثلاثة الأخيرة، والتي صُوِّرت على أنها الفرصة الأخيرة للسلام في إسرائيل.  تشبثت جميع الأطراف بالفكرة التي تفضي إلى ضرورة  وجود دولتين، أحدهما فلسطينية والأخرى إسرائيلية. إذ على مدار أكثر من 30 عاما حذر السياسيون والخبراء من "نقطة اللا عودة". ووزير الخارجية الأمريكي –جون كيري- ليس إلا الأخير في قائمة طويلة من الدبلوماسيين الأمريكيين المعنيين والمنخرطين في فكرة قد ولَّى زمانها.


إنَّ التوجهات الإسلامية القوية تجعل من فلسطين الأصولية أكثر رجاحة من دولة صغيرة  ذات حكومة علمانية. أما أن اختفاء اسرائيل كمشروع صهيوني خلال الحرب والاستنزاف الثقافي أو الزخم الديموغرافي هو كمعقولية إخلاء نصف مليون اسرائيلي يعيشون على حدود عام 1967 أو ما يسمى الخط الأخضر (فلسطين المحتلة) للسماح  بإقامة دولة فلسطينية حقيقة . وبينما انزلقت رؤية  دولتين إسرائيلية وأخرى فلسطينية مزدهرتين من معقولة إلى شبه ممكنة، فقد صارت فكرة دولة مختلطة ناتجة من نبع صراعات عنيفة مطولة حول الحقوق الديموقراطية ممكنة. بيد أن وهم وجود حل الدولتين يحجم الجميع من اتخاذ أي إجراء نحو حل عملي.

لجميع الأطراف أسباب تخصها للتشبث بهذا الوهم. فترى أن السلطة الفلسطينية تحتاج بأن يؤمن شعبها أنَّ هنالك تقدم يُحرز نحو حل الدولتين، وبذلك تستطيع الحصول على المزيد من الدعم الاقتصادي والدبلوماسي الذي يدعم اسلوب حياة قادتها، ويغطي أيضا وظائف عشرات الآلاف من الجنود والجواسيس وضباط الشرطة وموظفي الحكومة بالإضافة إلى صدارة السلطة في مجتمع لا يراها إلا فاسدة وغير كفؤ.

أما السلطات الإسرائيلية فتتمسك بفكرة الدولتين لأنها على ما يبدو تعكس مشاعر أغلبية اليهود الإسرائيليين، كما أنها تحصن البلاد من الازدراء الدولي، حتى و إنها تموه جهودها المستعرة لتوسيع رقعة إسرائيل في الضفة الغربية.

ويحتاج السياسيون الأمريكان شعار حل الدولتين ليظهروا للعالم أنهم يعملون حثيثين نحو حل دبلوماسي، وليبعدوا اللوبي الداعم لإسرائيل من الانقلاب عليهم ، وليخفوا عجزهم المهين بالسماح بأي تواصل ظاهر للعيان بين واشنطن والحكومة الإسرائيلية.

وأخيرا وليس بآخر، فإن صناعة  "عملية السلام" بجحافلها من المستشارين والخبراء والأكاديميين والصحافيين على حد سواء، تحتاج دعم ثابت من القراء والمستمعين والممولين الذين هم قلقون حد اليأس بأن نؤدي هذه الجولة من محادثات السلام  إلى اقامة دولة فلسطين، أو أنها قد لا تفعل.

وكما رأينا مؤخرا في الثلاثينيات، أن فكرة وجود دولتين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط اختفت تماما عن الساحة ما بين العامين 1948 و 1967. وقد عادت للظهور ما بين العامين 1967 و 1973 مناديا بها الأقلية من المعتدلين في كل مجتمع. وبحلول بدايات التسعينيات تبنتها الأغلبية في كل من الجانبين ليس على أنها فقط ممكنة ولكن –في أوج عملية أوسلو للسلام- أصبحت مرجحة الحدوث. وبيد أن إخفاقات القيادة في مواجهة الضغوطات الهائلة أودت بأوسلو إلى الهاوية. وفي أيامنا هذه لا نجد من يشير إلى أن المفاوضات في حل الدولتين مرجحة. ويصر الأكثر تفاؤلا، لفترة قصيرة، على أنها قد لا تزال مُتَصوَّرة.

ولكن العديد من الإسرائيليين لا يرون أن زوال الدولة فقط ممكن، بل مرجح.  إذ إنَّ دولة إسرائيل قد أقيمت ولكن لم تقم ديمومتها.  وحيث أن أكثر تعبير يستخدم في الخطابات الإسرائيلية السياسية  ببعض من الاختلاف هو: "اذا حدث كذا ( أو لم يحدث) ستنهار الدولة". و على الذين يظنون أنَّ إسرائيل ستدوم كمشروع صهيوني الأخذ بعين الاعتبار كم كان سريعا انحلال الاتحاد السوفييتي والبهلوي الإيراني والجنوب أفريقي العنصري والبعثيين العراقي والنظام اليوغسلافي كذلك. وكيف لذلك التحذير الذي أحسه المراقبون حادّوا البصر أنَّ مثل هذا الانهيار مستحيل الحدوث كان وشيكاً.

وتماما كالبالون حين نملأه تدريجيا بالهواء ينفجر عندما تنتهي قوة الشد على جوانبه، فإن هناك عتبات من التغيير المتطرف والمخرّب في السياسات. وعندما تُتَخطى تلك العتبات يصبح المستحيل فجأة ممكنا، بقليل من المؤشرات الثورية للحكومات والأمم. وكما نرى جليا عبر الشرق الأوسط، حين أُخمدت القوى من أجل التغيير والتجديد الفكري. مثلها مثل ما هو في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إذ أنَّ التغييرات المخضوضة والمفاجئة تصير مرجحة الحدوث.

إن الترجمة الإسرائيلية لرؤية حل الدولتين هي أنَّ اللاجئين الفلسطينيين يتخلون عن "حق العودة" المقدس، السيطرة الإسرائيلية على القدس، وتكتل هائل من المستوطنات الإسرائيلية يتخللها شوارع لا يسمح إلا للإسرائيليين بدخولها. أمَّا الترجمة الفلسطينية فتتصور حق العودة للاجئين، و إجلاء كافة المستوطنات، والقدس الشرقية كعاصمة فلسطين.


لم تعد "الدبلوماسية" تحت شعار حل الدولتين طريقا للحل بل صارت عين العائق في طريقه. نخوض في المفاوضات إلى لا شيء، وليست هذه المرة الأولى التي أعاق فيها الدبلوماسيون الأمريكان التقدم السياسي بحجة المحادثات اللارجاء منها.

في العام 1980 كنت أبلغ من العمر 30 عاما -كأستاذ مساعد-  في اجازة من العمل في جامعة دارتموث في مركز وزارة الخارجية للمخابرات والبحوث  وقد كنت فيه مسؤولا عن تحليل الاستيطان الإسرائيلي وسياسات مصادرة الأراضي في الضفة الغربية وانعكاساتها على "مفاوضات الحكم الذاتي"  القائمة في ذلك الوقت بين اسرائيل ومصر والولايات المتحدة . قد كان جليا لي أنَّ حكومة  رئيس الوزراء مناحم بيغن كانت تستعمل منهجيا المحادثات المطولة حول كيفية تدبير المفاوضات  كتمويه لحقيقة ضم الضفة الغربية من خلال بناء مكثف للمستوطنات، ومصادرة الأراضي، وتشجيع الهجرة العربية  "التطوعية".

ولحماية عملية السلام، حدًت أميركا بصرامة من نقدها العام لسياسات الحكومة الإسرائيلية، بجعل واشنطن العنصر الفاعل لعملية الضم الفعلية والتي كانت تدمر آفاق الحكم الذاتي الكامل والاعتراف بالحقوق الشرعية للفلسطينيين ، التي هي السبب الرسمي وراء المفاوضات.  هذه الرؤية التي أجازها وعززها بعض الأصوات القائدة في الإدارة. ومما لا دهشة فيه، فقد أغضبت البعض. وفي أحد الأيام استعديت إلى مكتب أحد الدبلوماسيين رفيع المستوى، والذي كان حينها من أحد الأشخاص في وزارة الخارجية المؤيدين للمفاوضات. لقد كان يحظى باحترامي وتقديري دوما. سألني:" هل أنت شخصيا متأكد من تحليلاتك، أنك تنوي بها تدمير الفرصة الوحيدة المتاحة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟"  لقد لكَّأني سؤاله هنيه! ولكن سرعان ما قلت:" أجل سيدي، أنا كذلك."

وإنَّ ترك حل الدولتين، بالنسبة للبعض، قد يعني بحال نهاية العالم. ولكنها ليست كذلك. حيث أن إسرائيل لن تبقى الرؤية اليهودية الديموقراطية لمؤسسيها الصهاينة. ولن تبقى منظمة التحرير الفلسطينية الراسخة في رام الله تتبختر على مسرح الدولة الفلسطينية. ولكن يمكن لهذه النظرات المستقبلية أن تجعل غيرها ممكنة.

إنَّ الافتراضات اللازمة للحفاظ على شعار حل الدولتين قد أعمتنا عن سيناريوهات أفضل منه. وبحال كائن لكن بلا دور يذكر، ما تبقى من السلطة الفلسطينية سيختفي لا محالة. ستواجه إسرائيل تحديا شرسا للسيطرة على النشاطات الاقتصادية والسياسية وكل المساحات الجغرافية ومصادر المياه من نهر الأردن حتى البحر الأبيض المتوسط. سيعج بذلك المسرح بالاضطهاد الغاشم والتعبئة الجماهيرية والشغب والوحشية والرعب وهجرات عربية ويهودية وتصاعد أمواج الإدانة العالمية لإسرائيل.  وستواجه أميركا غضبا عارما، حيث أنها لن تكون قادرة على تقديم دعمها التام لإسرائيل بعدئذ. وبمجرد زوال وهم الحل الأنيق و المستساغ للصراع، لربما بعدها ستبدأ القيادة الإسرائيلية بأن تفهم _كما فهم القادة البيض في جنوب أفريقيا في الثمانينيات المنصرمة- أن سلوكهم أسفر عن عزل وهجرة ويأس.
وحال الآن أشبه بما سلف، فإن المفاوضات مصطنعة، فهم يكتمون معلومات يحتاجها الإسرائيليون والفلسطينيون والأمريكان على حد سواء للبحث عن طرق سلمية في المستقبل. لم تعد القضية قضية أين ترسم الحدود السياسية بين اليهود والعرب على الخارطة، ولكن تكمن القضية في كيفية تحقيق المساواة في الحقوق السياسية. وتعني نهاية الخط الأخضر المرسوم عام 1967 كخط التماس بين السيادة الإسرائيلية والفلسطينية المتحملة  أنَّ الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية سيشكل وصمة عار لكل إسرائيل.
إنَّ صناعة السلام و بناء الدولة الديموقراطية تتطلبان دما وسحرا. ليس السؤال فيما اذا كان المستقبل يخبئ مزيدا من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لأنه يخبئ ذلك فعلا. وليس السؤال أيضا فيما إذا كان بالإمكان كبح الصراع. لأنَّه لا يمكن ذلك أبدا. ولكن تجنب تغيير كارثي حقا يعني بحال إنهاء فترة الحكم الخانقة ذات الفكرة منتهية الصلاحية، ويعني أيضا السماح لكل من الطرفين برؤية العالم ومن ثم التأقلم معه كما هو.

الكاتب:
إيان لاستيك، بروفيسور العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا. وصاحب كتاب "دول متنازع فيها،  وأراضٍ متنازع عليها: بريطانيا وإيرلندا، فرنسا والجزائر، إسرائيل والضفة الغربية-غزة. وصاحب كتاب "محاصرون في الحرب على الإرهاب".

ترجمة:

نائل خضر

------------------
المقال على الصحافة العربية

أمد للإعلام


وهم الدولتين- ترجمة نائل خضر

وهم الدولتين 

تراشقت أعقاب المشاريع التفاوضية الفاشلة على مر العقود الثلاثة الأخيرة، والتي صُوِّرت على أنها الفرصة الأخيرة للسلام في إسرائيل.  تشبثت جميع الأطراف بالفكرة التي تفضي إلى ضرورة  وجود دولتين، أحدهما فلسطينية والأخرى إسرائيلية. إذ على مدار أكثر من 30 عاما حذر السياسيون والخبراء من "نقطة اللا عودة". ووزير الخارجية الأمريكي –جون كيري- ليس إلا الأخير في قائمة طويلة من الدبلوماسيين الأمريكيين المعنيين والمنخرطين في فكرة قد ولَّى زمانها.


إنَّ التوجهات الإسلامية القوية تجعل من فلسطين الأصولية أكثر رجاحة من دولة صغيرة  ذات حكومة علمانية. أما أن اختفاء اسرائيل كمشروع صهيوني خلال الحرب والاستنزاف الثقافي أو الزخم الديموغرافي هو كمعقولية إخلاء نصف مليون اسرائيلي يعيشون على حدود عام 1967 أو ما يسمى الخط الأخضر (فلسطين المحتلة) للسماح  بإقامة دولة فلسطينية حقيقة . وبينما انزلقت رؤية  دولتين إسرائيلية وأخرى فلسطينية مزدهرتين من معقولة إلى شبه ممكنة، فقد صارت فكرة دولة مختلطة ناتجة من نبع صراعات عنيفة مطولة حول الحقوق الديموقراطية ممكنة. بيد أن وهم وجود حل الدولتين يحجم الجميع من اتخاذ أي إجراء نحو حل عملي.

لجميع الأطراف أسباب تخصها للتشبث بهذا الوهم. فترى أن السلطة الفلسطينية تحتاج بأن يؤمن شعبها أنَّ هنالك تقدم يُحرز نحو حل الدولتين، وبذلك تستطيع الحصول على المزيد من الدعم الاقتصادي والدبلوماسي الذي يدعم اسلوب حياة قادتها، ويغطي أيضا وظائف عشرات الآلاف من الجنود والجواسيس وضباط الشرطة وموظفي الحكومة بالإضافة إلى صدارة السلطة في مجتمع لا يراها إلا فاسدة وغير كفؤ.

أما السلطات الإسرائيلية فتتمسك بفكرة الدولتين لأنها على ما يبدو تعكس مشاعر أغلبية اليهود الإسرائيليين، كما أنها تحصن البلاد من الازدراء الدولي، حتى و إنها تموه جهودها المستعرة لتوسيع رقعة إسرائيل في الضفة الغربية.

ويحتاج السياسيون الأمريكان شعار حل الدولتين ليظهروا للعالم أنهم يعملون حثيثين نحو حل دبلوماسي، وليبعدوا اللوبي الداعم لإسرائيل من الانقلاب عليهم ، وليخفوا عجزهم المهين بالسماح بأي تواصل ظاهر للعيان بين واشنطن والحكومة الإسرائيلية.

وأخيرا وليس بآخر، فإن صناعة  "عملية السلام" بجحافلها من المستشارين والخبراء والأكاديميين والصحافيين على حد سواء، تحتاج دعم ثابت من القراء والمستمعين والممولين الذين هم قلقون حد اليأس بأن نؤدي هذه الجولة من محادثات السلام  إلى اقامة دولة فلسطين، أو أنها قد لا تفعل.

وكما رأينا مؤخرا في الثلاثينيات، أن فكرة وجود دولتين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط اختفت تماما عن الساحة ما بين العامين 1948 و 1967. وقد عادت للظهور ما بين العامين 1967 و 1973 مناديا بها الأقلية من المعتدلين في كل مجتمع. وبحلول بدايات التسعينيات تبنتها الأغلبية في كل من الجانبين ليس على أنها فقط ممكنة ولكن –في أوج عملية أوسلو للسلام- أصبحت مرجحة الحدوث. وبيد أن إخفاقات القيادة في مواجهة الضغوطات الهائلة أودت بأوسلو إلى الهاوية. وفي أيامنا هذه لا نجد من يشير إلى أن المفاوضات في حل الدولتين مرجحة. ويصر الأكثر تفاؤلا، لفترة قصيرة، على أنها قد لا تزال مُتَصوَّرة.

ولكن العديد من الإسرائيليين لا يرون أن زوال الدولة فقط ممكن، بل مرجح.  إذ إنَّ دولة إسرائيل قد أقيمت ولكن لم تقم ديمومتها.  وحيث أن أكثر تعبير يستخدم في الخطابات الإسرائيلية السياسية  ببعض من الاختلاف هو: "اذا حدث كذا ( أو لم يحدث) ستنهار الدولة". و على الذين يظنون أنَّ إسرائيل ستدوم كمشروع صهيوني الأخذ بعين الاعتبار كم كان سريعا انحلال الاتحاد السوفييتي والبهلوي الإيراني والجنوب أفريقي العنصري والبعثيين العراقي والنظام اليوغسلافي كذلك. وكيف لذلك التحذير الذي أحسه المراقبون حادّوا البصر أنَّ مثل هذا الانهيار مستحيل الحدوث كان وشيكاً.

وتماما كالبالون حين نملأه تدريجيا بالهواء ينفجر عندما تنتهي قوة الشد على جوانبه، فإن هناك عتبات من التغيير المتطرف والمخرّب في السياسات. وعندما تُتَخطى تلك العتبات يصبح المستحيل فجأة ممكنا، بقليل من المؤشرات الثورية للحكومات والأمم. وكما نرى جليا عبر الشرق الأوسط، حين أُخمدت القوى من أجل التغيير والتجديد الفكري. مثلها مثل ما هو في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إذ أنَّ التغييرات المخضوضة والمفاجئة تصير مرجحة الحدوث.

إن الترجمة الإسرائيلية لرؤية حل الدولتين هي أنَّ اللاجئين الفلسطينيين يتخلون عن "حق العودة" المقدس، السيطرة الإسرائيلية على القدس، وتكتل هائل من المستوطنات الإسرائيلية يتخللها شوارع لا يسمح إلا للإسرائيليين بدخولها. أمَّا الترجمة الفلسطينية فتتصور حق العودة للاجئين، و إجلاء كافة المستوطنات، والقدس الشرقية كعاصمة فلسطين.


لم تعد "الدبلوماسية" تحت شعار حل الدولتين طريقا للحل بل صارت عين العائق في طريقه. نخوض في المفاوضات إلى لا شيء، وليست هذه المرة الأولى التي أعاق فيها الدبلوماسيون الأمريكان التقدم السياسي بحجة المحادثات اللارجاء منها.

في العام 1980 كنت أبلغ من العمر 30 عاما -كأستاذ مساعد-  في اجازة من العمل في جامعة دارتموث في مركز وزارة الخارجية للمخابرات والبحوث  وقد كنت فيه مسؤولا عن تحليل الاستيطان الإسرائيلي وسياسات مصادرة الأراضي في الضفة الغربية وانعكاساتها على "مفاوضات الحكم الذاتي"  القائمة في ذلك الوقت بين اسرائيل ومصر والولايات المتحدة . قد كان جليا لي أنَّ حكومة  رئيس الوزراء مناحم بيغن كانت تستعمل منهجيا المحادثات المطولة حول كيفية تدبير المفاوضات  كتمويه لحقيقة ضم الضفة الغربية من خلال بناء مكثف للمستوطنات، ومصادرة الأراضي، وتشجيع الهجرة العربية  "التطوعية".

ولحماية عملية السلام، حدًت أميركا بصرامة من نقدها العام لسياسات الحكومة الإسرائيلية، بجعل واشنطن العنصر الفاعل لعملية الضم الفعلية والتي كانت تدمر آفاق الحكم الذاتي الكامل والاعتراف بالحقوق الشرعية للفلسطينيين ، التي هي السبب الرسمي وراء المفاوضات.  هذه الرؤية التي أجازها وعززها بعض الأصوات القائدة في الإدارة. ومما لا دهشة فيه، فقد أغضبت البعض. وفي أحد الأيام استعديت إلى مكتب أحد الدبلوماسيين رفيع المستوى، والذي كان حينها من أحد الأشخاص في وزارة الخارجية المؤيدين للمفاوضات. لقد كان يحظى باحترامي وتقديري دوما. سألني:" هل أنت شخصيا متأكد من تحليلاتك، أنك تنوي بها تدمير الفرصة الوحيدة المتاحة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟"  لقد لكَّأني سؤاله هنيه! ولكن سرعان ما قلت:" أجل سيدي، أنا كذلك."

وإنَّ ترك حل الدولتين، بالنسبة للبعض، قد يعني بحال نهاية العالم. ولكنها ليست كذلك. حيث أن إسرائيل لن تبقى الرؤية اليهودية الديموقراطية لمؤسسيها الصهاينة. ولن تبقى منظمة التحرير الفلسطينية الراسخة في رام الله تتبختر على مسرح الدولة الفلسطينية. ولكن يمكن لهذه النظرات المستقبلية أن تجعل غيرها ممكنة.

إنَّ الافتراضات اللازمة للحفاظ على شعار حل الدولتين قد أعمتنا عن سيناريوهات أفضل منه. وبحال كائن لكن بلا دور يذكر، ما تبقى من السلطة الفلسطينية سيختفي لا محالة. ستواجه إسرائيل تحديا شرسا للسيطرة على النشاطات الاقتصادية والسياسية وكل المساحات الجغرافية ومصادر المياه من نهر الأردن حتى البحر الأبيض المتوسط. سيعج بذلك المسرح بالاضطهاد الغاشم والتعبئة الجماهيرية والشغب والوحشية والرعب وهجرات عربية ويهودية وتصاعد أمواج الإدانة العالمية لإسرائيل.  وستواجه أميركا غضبا عارما، حيث أنها لن تكون قادرة على تقديم دعمها التام لإسرائيل بعدئذ. وبمجرد زوال وهم الحل الأنيق و المستساغ للصراع، لربما بعدها ستبدأ القيادة الإسرائيلية بأن تفهم _كما فهم القادة البيض في جنوب أفريقيا في الثمانينيات المنصرمة- أن سلوكهم أسفر عن عزل وهجرة ويأس.
وحال الآن أشبه بما سلف، فإن المفاوضات مصطنعة، فهم يكتمون معلومات يحتاجها الإسرائيليون والفلسطينيون والأمريكان على حد سواء للبحث عن طرق سلمية في المستقبل. لم تعد القضية قضية أين ترسم الحدود السياسية بين اليهود والعرب على الخارطة، ولكن تكمن القضية في كيفية تحقيق المساواة في الحقوق السياسية. وتعني نهاية الخط الأخضر المرسوم عام 1967 كخط التماس بين السيادة الإسرائيلية والفلسطينية المتحملة  أنَّ الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية سيشكل وصمة عار لكل إسرائيل.
إنَّ صناعة السلام و بناء الدولة الديموقراطية تتطلبان دما وسحرا. ليس السؤال فيما اذا كان المستقبل يخبئ مزيدا من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لأنه يخبئ ذلك فعلا. وليس السؤال أيضا فيما إذا كان بالإمكان كبح الصراع. لأنَّه لا يمكن ذلك أبدا. ولكن تجنب تغيير كارثي حقا يعني بحال إنهاء فترة الحكم الخانقة ذات الفكرة منتهية الصلاحية، ويعني أيضا السماح لكل من الطرفين برؤية العالم ومن ثم التأقلم معه كما هو.

الكاتب:
إيان لاستيك، بروفيسور العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا. وصاحب كتاب "دول متنازع فيها،  وأراضٍ متنازع عليها: بريطانيا وإيرلندا، فرنسا والجزائر، إسرائيل والضفة الغربية-غزة. وصاحب كتاب "محاصرون في الحرب على الإرهاب".

ترجمة:

نائل خضر

------------------
المقال على الصحافة العربية

أمد للإعلام


نشر في : 5:07 PM |  من طرف Unknown

0 التعليقات:

نرحب بتعليقاتكم

back to top